سورة التوبة - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}
وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين لأيمانهم، الذين هموا بإخراج الرسول من مكة، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
وقال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} الآية [الممتحنة: 1] وقال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 76]وقوله {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قيل: المراد بذلك يوم بدر، حين خرجوا لنصر عيرهم فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجوههم طلبا للقتال، بغيا وتكبرا، كما تقدم بسط ذلك.
وقيل: المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وكان ما كان، ولله الحمد.
وقوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يقول تعالى: لا تخشوهم واخشون، فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي، فبيدي الأمر، وما شئت كان، وما لم أشأ لم يكن.
ثم قال تعالى عزيمة على المؤمنين، وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته على إهلاك الأعداء بأمر من عنده: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} وهذا عام في المؤمنين كلهم.
وقال مجاهد، وعِكْرِمة، والسدي في هذه الآية: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} يعني: خزاعة.
وأعاد الضمير في قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} عليهم أيضا.
وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة مؤذنٍ لعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، عن مسلم بن يسار، عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غضبت أخذ بأنفها، وقال: «يا عويش، قولي: اللهم، رب النبي محمد اغفر ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن».
ساقه من طريق أبي أحمد الحاكم، عن الباغندي، عن هشام بن عمار، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الجون، عنه.
{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} أي: من عباده، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي: بما يصلح عباده، {حَكِيمٌ} في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو العادل الحاكم الذي لا يجور أبدا، ولا يضيع مثقال ذرة من خير وشر، بل يجازي عليه في الدنيا والآخرة.


{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أيها المؤمنون أن نترككم مهملين، لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب؟ ولهذا قال: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي: بطانة ودخيلة بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر، كما قال الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا *** أريد الخير أيهما يليني
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1- 3] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]
وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179]
والحاصل أنه تعالى لما شرع الجهاد لعباده، بين أن له فيه حكمة، وهو اختبار عبيده: من يطيعه ممن يعصيه، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؟ فيعلم الشيء قبل كونه، ومع كونه على ما هو عليه، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، ولا راد لما قدره وأمضاه.


{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
يقول تعالى: ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له. ومن قرأ: {مسجد الله} فأراد به المسجد الحرام، أشرف المساجد في الأرض، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له. وأسسه خليل الرحمن هذا، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، أي: بحالهم وقالهم، كما قال السُّدِّي: لو سألت النصراني: ما دينك؟ لقال: نصراني، واليهودي: ما دينك؟ لقال يهودي، والصابئي، لقال: صابئي، والمشرك، لقال: مشرك.
{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بشركهم، {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} كما قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]؛ ولهذا قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا سريج حدثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث؛ أن دراجا أبا السمح حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}».
ورواه الترمذي، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب، به.
وقال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا صالح المري، عن ثابت البناني، عن ميمون بن سياه، وجعفر بن زيد، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما عمار المساجد هم أهل الله» ورواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عبد الواحد بن غياث، عن صالح بن بشير المري، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما عمار المساجد هم أهل الله» ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح.
وقد روى الدارقطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار، عن أبيها، عن أخيه مالك بن دينار، عن أنس مرفوعا: «إذا أراد الله بقوم عاهة، نظر إلى أهل المساجد، فصرف عنهم». ثم قال: غريب.
وروى الحافظ البهاء في المستقصى، عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي: حدثنا منصور بن صقير، حدثنا صالح المرى، عن ثابت، عن أنس مرفوعا: «يقول الله: وعزتي وجلالي، إني لأهم بأهل الأرض عذابا، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت ذلك عنهم». ثم قال ابن عساكر: حديث غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا سعيد، عن قتادة، حدثنا العلاء بن زياد، عن معاذ بن جبل؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان ذئب الإنسان، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد».
وقال عبد الرازق، عن مَعْمَر، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها.
وقال المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ويأتي المسجد ويصلي، فلا صلاة له، وقد عصى الله ورسوله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية رواه ابن مردويه.
وقد روي مرفوعا من وجه آخر، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها.
وقوله: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ} أي: التي هي أكبر عبادات البدن، {وَآتَى الزَّكَاةَ} أي: التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} أي: ولم يخف إلا من الله تعالى، ولم يخش سواه، {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} يقول: من وحد الله، وآمن باليوم الآخر يقول: من آمن بما أنزل الله، {وَأَقَامَ الصَّلاةَ} يعني: الصلوات الخمس، {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} يقول: لم يعبد إلا الله- ثم قال: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] يقول: إن ربك سيبعثك مقاما محمودا وهي الشفاعة، وكل عسى في القرآن فهي واجبة.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله: وعسى من الله حق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8